من تاريخ المدينة المنورة الحديث , وأبدأ فأقول: سفر برلك اسم يعرفه أهل المدينة المنورة , اسم يحمل في طيئاته ألما وتاريخا سيئا , وكان من أمره أنه في عام 1333هـ اشتعلت الحرب العالمية الأولى ونالت المدينة نصيبها من هذه الحرب , فأغلقت جميع المدارس, وقام الشريف الحسين بن علي رحمه الله بثورته الكبرى وأعلن نفسه ملكا عام 1334هـ, فقام الشريف بحصار المدينة المنورة لتخليصها من يد الوالي التركي الظالم , وتحصنت الحامية العثمانية في المدينة بقيادة الظالم (عمر فخري باشا), وهذا الرجل كان يشبه الوالي التركي الظالم (جمال باشا) والي الشام في ظلمه, فحاصرت الحامية جيوش الشريف حصارا شديدا , وكان ضحية هذا الحصار أهالي المدينة المنورة, فقام فخري باشا بترحيل أهل المدينة الى الشام وتركيا بحجة الخوف من حدوث المجاعة لأهلها وتأمين الغذاء لجيشه , فقام بإرسال العائلات إجبارا عبر سكة الحديد الى تركيا , فبعضهم وصل الى تركيا وبعضهم تعطل بهم القطار فسكنوا الشام , ولم يبق بالمدينة أحد سوى 80 الى 100 شخص , ولكم ان تتخيلوا كيف كانت أثر هذا الترحيل الظالم على أهل المدينة , فذرفت العيون ووصلت القلوب الى الحناجر , ويصف الشيخ الشاعر محمد العمري رحمه الله منظر المهاجرين وهم يساقون الى القطار مكرهين فيقول : دار الهدى خف منك الاهل والوطن *** واستفرغت جهدها في ربعك المحن عفا المصلى الى سلع الى جشم *** والحرتان ومرأى أرضها الحسن أقوى العقيق الى الجما الى أحد *** الى قباء التي يحيا بها الشجن منازل شب فيها الدين واكتملت *** آياته فاستعارت نورها المدن لأي أرض يشد الرحل كاتبه *** يبغي المثوبة أو يشتاقه عطن أبعد روضتها الغنا وقبتها الـ *** خضراء يحلو بعيني مسلم وطن ما غوطة الشام , ما نهر الأبلة ما *** حمراء غرناطة ما مصر مااليمن كل المنى في رحاب المصطفى جمعت *** دينا ودنيا فما في مثلها ثمن ويصف السيد أمين مدني المدينة وقد خلت من أهلها فيقول في مذكراته الخاصة : (( خلت محلات المدينة وميادينها وأسواقها وأزقتها وأحواشها, وكل دار من دورها من سكانها فتبدل الضجيج بصمت رهيب , فكأن الدور قد صف بعضها بجانب بعض , كثبان الربع الخالي لا أنيس بها ولا مسافر, أو كأنها قمم جبل سلع, وأمست في ليلها كأنها مدينة الأشباح التي تبدو في ظلال الليل الحائر كتلا من الظلام على هيئة الجن والأبالسة التي تتحدث عنها العجائز تقفز من سطح الى سطح , فيفزع الى حضن امه مرعوبا يسأل عن الأشباح وعن الصمت والظلام)), وبلغ الحصار قمته في عامي 1336 و 1337هـ وأصيب أهل المدينة بمجاعة شديدة وخوف وهلع , حتى قيل أنه أكلت الحيوانات الميتة والقطط وفي فصول من تاريخ المدينة يذكر السيد على حافظ ان احد سكان المدينة باع بيته بكيس ارز , وأما العائلات التي هاجرت رغما عنها فقد أصيبت بالجوع والمرض والبرد وعانوا أشد المعاناة , واستمر الحصار حتى ارسلت القيادة العثمانية الى فخري باشا ان استسلم الا ان الرجل لم يأبه ولم يستسلم , ولم يزل كذلك حتى استسلم في آخر الامر للشريف الحسين بن علي رحمه الله وانضمت المدينة الى حكم الاشراف في جمادى الاولى عام 1337هـ , وكانت هذه الهجرة والتي سميت بسفر برلك سبب في انقراض بعض عائلات المدينة فبعضهم استطاع ان يعود الى المدينة المنورة وبعضهم مكث في مقره وأغلب الاسر هاجرت الى تركيا والشام من أمثال : اسرة الشيخ عبد الحميد عنبر والشيخ عبد الحق النقشبندي والسادة آل الحسيني ( السيد عمران الحسيني) واسرة السيد حبيب والشيخ عبد الحق رفاقت علي والسادة آل الطرابيشي وبيت الاسكندراني والشيخ سليمان مراد والسيد جعفر الكتاني وبيت الجنيد ( جنيد بن فيض) والسيد عبد الله جمل الليل واسماعيل حفظي وغيرهم وهؤلاء الذين ذكرتهم هاجروا الى الشام , ومن امثال من هاجر الى تركيا الشيخ محمد سعيد مدرس وأحمد عبدالله ثروت وأظن أن عائلتنا انتقلت الى تركيا (عائلة الطولة) ولم اتاكد من هذا , وبعض العوائل استطاعت ان تهرب الى ينبع مثل أسرة الشيخ محمد حسين زيدان وأسرة أبو طربوش واسرة ابراهيم حسوبة وبيت الشربيني والشيخ عبد الغني مشرف , وبعضها انتقلت الى مكة مثل اسرة عبد القدوس الانصاري واسرة آل طاهر وآل الدعيس والسيد أحمد صقر واسرة الصفرجي, وبعضها هاجرت الى الاردن منهم بيت يعقوب عفيفي وبيت أبو عوف وأما الشيخ عبد الستار عاشور فقد هاجر الى الاردن ثم انتقل الى الشام , وبعضهم ذهب الى مناطق اخرى مثل السيد عباس رضوان فقد هاجر الى مصر , واسرة ابو خضير هاجرت الى جدة ثم الطائف واسرة السيد عمر طه هاجرت الى جدة والسيد ادريس هاشم هاجر الى فلسطين, وممن بقي في المدينة السيد أمين مدني وحسن سلكاوي واسرة الشيخ عبد الرحمن كعكي ولابيه قصة حول سفره وغيرهم , واستطاع اهل المدينة الرجوع اليها بعد ان تغربوا وهم مازالوا يذكرون آلام تلك السنين , ومن أفضل من كتب حول هذا الموضوع الشيخ محمد حسين زيدان رحمه في كتابه الممتع الجميل (ذكريات العهود الثلاثة), كما ان كتاب (طيبة وذكريات الاحبة) يحوي كثيرا من القصص حول هذا السفر , وأحب أن أثبت قصيدة وجدتها في خاتمة كتاب (مناقب سيد الشهداء رضي الله تعالى عنه) للسيد جعفر البرزنجي –مطبعة حسان القاهرة- وهي قصيدة أنشأها الأستاذ شكري البغدادي يهجو فيها فخري باشا محافظ المدينة المنورة المذكور وقد لاقت اعجابا من الشريف الحسين بن علي وكوفئ عليها مكافئة عظيمة سنة 1338هـ , والقصيدة ركيكة الأبيات بها كسور كثيرة جدا غير مستقيمة الوزن وأغلب الظن أن الخطأ من المطبعة فمن تأمل الكتاب وجد فيه الكثير من الأخطاء المطبعية لكن أثبتها لتعطي صورة عما كانوا عليه في ذلك الوقت , يقول شكري البغدادي: بشرى فقد أعطى الاقواس باريها *** واسكن الدار بالأمان بانيها وخائن الدين ولى خائفا وجلا *** وحل في بلدة المختار حاميها الناس أجرجها والدور هدمها *** والخلق غادرها تشكوا لباريها قد جوع الجند من بخل ومن حمق *** ويظهر الفقر والأرزاق يخفيها في طيبة قد أمات الجند من سغب *** وأضاع أرزاقهم ضغنا لأهليها يا للعجائب كيف الأرض ما خفيت *** به وخضراؤنا لم تلق ما فيها أما استحقت يد للقطع قد جسرت *** على خزينة خير الخلق مهديها إن تقطعوا يده فلا حرج فقد *** سرق الأموال واستغل ما فيها أغلى الأمانات أهداها إلى فئة *** فهذه فعلة من ذا يجر فيها أذاب منها الذي كان ذا ثمن *** فأنت أعلم باشهم بما فيها الله الله يا أبناء فاطمة فهل *** أخذ التاج الدري يرضيكم يرضيها يارغد قل لي من أفتاك عن سفه *** حتى اقترفت ذنوبا كنت تدريها التمر صادره والمال جمعه *** والناس قاست جوعا كفا لا يعطيها سل البقيع عن الموتى بلا كفن فهل *** كان شيئا من الأرزاق يعطيها كم عالم مات جوعا بعد أن حملت *** أكتافه من صخور جل باريها كم حرة نقلت صخرا مبرقعة *** بقرص خبز من الأنات ينجيها أما السنانير فما ابقوا لها أثرا *** فالبعض يطبخها والبعض يشويها ذوب القلوب لهذا واجب كمدا *** ان كان إيمانها للحق يهديها أفعاله السود اضحت بلا عدد *** فليس أوراق هذا العصر تحصيها يا عابد الله إن الرب وفقكم إلى *** أمور عظام كنت ابغيها خذ الحقوق لأهلها فقد ظلموا *** فقد أصبحت اليوم راعيها لا يعرف الظلم إلا من يكابده *** ولا المجاعة إلا من يعانيها سموأل جاره قد عاش في كنف *** ودار خير الخلق تنفي أهاليها ومجد المصطفى عنا بحيرته *** وصار يخدمه كذبا وتمويها قد قال للناس إني حامي بلدتكم *** فأضحى كما قيل حاميها حراميها كم جر مني لعين حل هنا *** وداس عيرا وثورا ثم واديها تالله لو كان غبر الحرب ما حل هنا *** ولما نجا مثال الوغد فخر فيها نصر الإله من يصن شريعة محمد *** شفيع الأمة قاصيها ودانيها وكما يظهر فإن القصيدة هي أشبه بالنثر إن لم تكن نثرا, وأنا أظن أن الأخطاء التي تسببت في الكسور الواضحة من نفس المطبعة فطبعتها رديئة, وهذا ما استطعت ان اكتبه حول هذا التاريخ , وحررته في جمادى الآخر من عام 1424هـ , وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين. منقول[/frame]
الرئيسية 
حارة القصاص 
أحدث الصور 
التسجيل 
ألعاب فلاشية على القصاص برامج حارة القصاص 
دخول 
الثلاثاء نوفمبر 11, 2008 8:30 am